بودا و بست أو بشت كما ينطقها المحليون ويجعلونها واحدة بودابشت ، كانت مدينتين فربطتا بجسر السلاسل Chain Bridge فأتحدتا وأصبحتا روحا واحدة ومدينة واحدة ، ثم أتبعت المدينة ربط طرفيها المفترقين بنهر الدانوب العظيم Danube بستة جسور أخرى لكل واحد منها رمزها التاريخي وحكاية يحكيها ، جميلة من جميلات أوروبا ، رائعة ، متعددة الثقافات ، قديمة التاريخ ، متنوعة الجغرافيا ، عاصمة "المجر" كما نسميها نسبة لأول قبائلها التي سكنتها أو "هنجاري" كما أصبح إسمها ، مدينة يقطنها مايزيد عن 1,7 مليون نسمة وفي محيطها وضواحيها بنفس القدر من السكان ، بها العديد من الآثار المسجلة من ضمن كنوز اليونسكو ، ويسميها البعض باريس الشرقية.
إستقبلتنا أولا بعد مغربها بقليل على جسر إليازابيث Elisabeth Bridge ، الجسر الذي بني عام 1903م وأعيد بناءه مابين عامي 1961-1964م وذلك بعد أن دمر نفس الجسر في الحرب العالمية الثانية. كانت إقامتنا في فندق جميل وصغير وفي موقع حيوي ورائع وهو فندق بوتيك زارا Boutique Hotel Zara (يوجد فندق آخر بإسم زارا في بودابشت ، هذا الفندق يقع في Utca So 6) الفندق لديه مواقف سيارات في أسفله ونصحوني بأنني لن أحتاج للسيارة وذلك بالفعل ماكان ، ألتجأنا مباشرة إلى الشارع السياحي القريب خلف فندقنا والمليء بالمطاعم السياحية Váci u لتناول طعام العشاء بعد رحلة طويلة بالسيارة ، عادة ، لا أحب المطاعم السياحية وأحب البحث عن مطعم يرتاده أبناء البلد ، فهناك تجد الطعام الحقيقي والطباخين الأصليين ، ولكن الجوع كافر ، وضيق الوقت لم يسمح لنا بالكثير من الخيارات.
في يومنا التالي عبرنا جسر الحرية Liberty Bridge القريب من فندقنا إلى بودا أو الجزء الغربي من المدينة ، كانت وجهتنا قلعة بودا Buda Castle التي تقبع فوق تلة تعرف بإسمها وتشرف على معظم المدينة وعلى نهر الدانوب بمنظر رائع ، وبها القصر الملكي Royal Palace الذي دمر في حصار الإتحاد المسيحي عام 1686م وأتبع بمجزرة للترك المسلمين الذين أستبسلوا في الدفاع سابقا في عدة حصارات للمدينة لأكثر من قرن ونصف حكموا فيها المجر ، فقتل منهم ما يزيد عن 3,000 إنسان لم يفرق في جنسهم أو عمرهم ، ويذكر التاريخ قتل 1,000 آخرين من يهود المدينة على يد الغزاة المسيحيين ، اليهود الذين تنعموا بالسلام سابقا تحت حكم العثمانيون ، ثم أعيد بناء القصر وأجزاء أخرى من سور القلعة وبرجها الذي دمر أيام الحرب خلال العقود التالية ، وبعد مشروع كبير لترميم القصر بدأ مع بداية هذا القرن أصبح القصر متحفا لزيارة السياح.
في الجانب الآخر من القلعة هناك سور الصيادين Fisherman's Bastion وهو سور مبني على النمط القوطي ويسمح بمنظر بانورامي رائع للمدينة التي تقبع تحته ولنهر الدانوب وجميع الجسور التي عليه ويحمي شرفة عظيمة وساحة رائعة تتوسطها كنيسة ماتياس Matthias Church ببرجها القوطي العالي ، دخلنا الكنيسة وشاهدنا المتحف الصغير الذي تحتويه وصعدنا البرج من خلال الدرجات الضيقة لنشاهد المنظر الجميل من أعلى البرج ، ثم نزلنا من درج آخر لنجد أنفسنا مباشرة في الساحة ، بقي أن أذكر أن الصعود إلى القلعة يمكن بعدة طرق إما مشيا على الأقدام أو بإستخدام عربة قطار أشبه بالتليفريك أو بالباص.
الجو كان حارا جدا ، ويلجأ الجميع إلى المسابح والحمامات التركية المنتشرة في المدينة وتعد من تراثها التركي ، بعضها تحتوي على مغاطس علاجية من المياه الكبريتية ونحوه ، زرنا بعضها في بعض أيام زيارتنا ، أشبه بالمسابح العامة الكبيرة ، ولأن هذه الشعوب ليس من تقاليدها الحياء والستر ، فالحرص واجب على إيجاد المكان المناسب لتغيير الملابس.
أحد المباني التاريخية والجميلة في المدينة مبنى البرلمان Hungarian Parliament Building ، يقف مزهوا على ضفة النهر من الناحية الشرقية ناحية بشت ، زيارته من الخارج متاحة للسياح أما من الداخل فيجب أخذ موعد عن طريق الإنترنت ، وهو على الطراز القوطي البديع وبني عام 1896م وأفتتح في 1904م ، تلحق به حديقة جميلة في الخلف ، بعد زيارتنا توقفنا عند كافيه لشرب القهوة يقع خلفه إسمه إليسيه بيسترو Elysée Bistro & Cafe ، لا أنسى فيه القهوة الرائعة بالآيسكريم (إسبريسو مع كرة آيسكريم).
كانت المدينة أيضا أول تجاربنا للباص البرمائي Floating Bus or River Ride ، كانت تجربة مثيرة عبارة عن باص سياحي يبدأ بجولة في بعض شوارع المدينة ثم ينزل إلى النهر ليطفو كقارب ويكمل جولته السياحية عبر عدة مواقع في النهر ويعود لاحقا لنفس الموقف الذي بدأ منه ، وهناك باص آخر جربناه لأول مرة وهو الباص السياحي هوب أون هوب أوف hop on hop off المنتشر في معظم مدن أوروبا السياحية ، تجربة ممتازة وجيدة لإستثمار الوقت والحصول على إرشادات وتعريفات بالأماكن السياحية في المدينة ، تعرفنا معه على الكثير من معالم بودابشت وآثارها ، فالمدينة كأنها متحف مفتوح ، من أهم الأماكن التي شاهدناها نصب الألفية Millenniumi emlékmű والذي إكتمل بناءه عام 1906م ويمثل جوهرة في قلب بودابشت والذي يرمز إلى صمود الشعب الهنجاري ، وشاهدنا مبنى الأوبرا القديم Magyar Állami Operaház ، وشارع أندريسي Andrássy út الجميل الذي يماثل الشانزيليزيه في عرضه ، ومررنا بالمعبد اليهودي Dohány Street Synagogue ، فالجالية اليهودية كبيرة في هنجاريا ، والجدير ذكره أن إنطلاقة الصهيونية العالمية كانت من بودابشت على يد المجري اليهودي ثيودور هيرتزل ، وتوقفنا لاحقا عند مقهى نيويورك New York Kávéház وهو من معالم بودابشت العريقة ، فالمقهى والمطعم ذي الديكورات الكلاسيكية الرائعة الذي يحتل الدور الأرضي من فندق عريق ويقدم أطعمة ومشروبات راقية كان دائما المكان المفضل للكتاب والأدباء المجريين.
في الليلة الثالثة ولأول مرة بعد وصولنا لبودابشت أخرجت سيارتي من الموقف للذهاب للمطار لإستقبال بنتي جود التي إنتهت من فصل اللغة الألمانية السريع لأسبوعين ، وكنت قد حجزت لها أول أيام وصولنا لبودابشت ، وهكذا إلتأم شمل عائلتنا الصغيرة وسعدوا جوان وإبراهيم بأختهم جدا والحمدلله ، كم كنت سعيدا وأنا أستقبلها في المطار في أول رحلة لها وحدها في حياتها ، كنت فخورا بها وفرحا جدا ، فقد كبرت إبنتي.
معالم بودابشت لا تنتهي ، هناك الكثير لزيارته رغم الكثير الذي زرناه ، سوق المزارعين Mercado Central Központi الذي كان قريبا من فندقنا كان مكانا جميلا لزيارته وتكرار زيارته ، فالسوق المغطى الكبير يحتوي في دوره الأرضي على محلات عديدة تبيع مالذ وطاب من الفواكه والخضروات واللحوم والأسماك والبقوليات والتذكارات ، إشترينا العديد من أنواع الفلفل والبهارات ، لديهم خلطات لا تنتهي ، الدور الثاني من السوق كان لمحلات للملابس التقليدية والألعاب ومطاعم من كل صنف ولون ، هو مكان مناسب لتناول وجبة خفيفة أو عشاء حسب التفضيل ، كما زرنا سوق يوم الأحد Szimpla Sunday Farmer’s Market والذي يجتمع فيه المزارعون أيضا يبيعون فيه أصنافا عديدة من الأجبان وأنواع الخبز والفواكه والخضروات والعسل.
من معالم بودابشت التي زرناها أيضا كاتدرائية ساينت إيستيفينز St. Stephen's Basilica التي إنتهى بنائها عام 1905م وتشكل تصميما هندسيا رائعا ، مبنى آخر رائع هو متحف الإثنيات Museum of Ethnography رغم أن المتحف نفسه لم يكن يحتوي على الكثير إلا أن المبنى نفسه عبارة عن تحفة معمارية رائعة.
في إحدى الليالي حضرنا عرضا فلوكلوريا في أحد المسارح الصغيرة ، إشترينا البرنامج كاملا من الفندق ، كان البرنامج يحتوي على تذاكر الدخول للعرض في المسرح ثم الخروج إلى الميناء على النهر وركوب يخت في جولة نهرية ليلية مع بوفيه للعشاء ، إستمتعنا جدا بالعرض وبالنزهة النهرية ولكن العشاء لم يكن مشهيا كثيرا ، فالمطبخ الهنجاري لم يكن مشهيا ، وبذكر العشاء فإن أحد المطاعم المتميزة التي أذكرها هو مطعم يوناني إسمه ديونيسوس تاڤيرنا Dionysos Taverna كان مطعما رائعا إستمتعنا فيه بعدة أطباق من حوض البحر المتوسط.
بودابشت مدينة جميلة جدا وممتعة للزيارة ، صيفها كان حارا جدا نهارا مما كان يستدعي السلطات لتوزيع مياه مجانية في الشارع أحيانا ، أهلها طيبون ولكن يتشابهون مع بعض أعراق هذه الناحية من أوروبا بالغلاظة في التعامل ولكن صادقون في المجمل ، خمسة أيام قضيناها هنا لم يعكر مزاجنا أي شيء والحمدلله ، غادرنا بعدها إلى زغرب عاصمة كرواتيا التي تبعد 4 ساعات أو 343 كم تقريبا ، مررنا في الطريق بشاطىء بحيرة بالاتون Lake Balaton حيث يترامى الناس على الشاطىء بسبب القيظ الشديد.