الصفحة الرئيسية
من أنا
مقالات أخرى
رحلاتي
حرب وسلام .. من فيتنام

أول ما يخطر في بال السامع عن فيتنام حربها مع أمريكا وأفلام رامبو وبلاتون وغيرها ، الأفلام الأمريكية روعت العالم من الشعب الفيتنامي وأظهرتهم كأنهم من أشد الناس أعداء للبشر! تجربتي الشخصية مع الفيتناميين الذين قابلتهم سابقا كثيرا في فرنسا وفي زيارتي لفيتنام انهم شعب طيب ومسالم للغاية.

خضعت فيتنام للحكم الصيني طوال 1000 عام ، لتنتقل بعدها لإحتلال فرنسي لأكثر من مائة عام أخرى ، ثم أحتلت من قبل اليابانيون ، استقلت بعدها لتتجاذبها الأطراف العالمية المسيطرة وتتفق في النهاية على تقسيمها جزءا شماليا يخضع لحكومة شيوعية وجزء جنوبي ديمقراطي مدعوم من القوى الغربية بقيادة الولايات المتحدة ، في عام 1954 م بعد تمدد للجزء الشمالي دقت أجراس الحرب بين الطرقين وتدخلت الولايات المتحدة الأمريكية من ضمن مجموعة دول أخرى تشمل أستراليا ونيوزيلاند والفلبين وثايلاند ، وانتهت بعد 19 عاما بعد ان تسببت في بعض الإحصاءات بمقتل 1.5-2 مليون شخص.

الحرب الأخيرة كانت لها الصدى الأعلى عالميا على فيتنام ولعلها كانت الأكثر تأثيرا على الثقافة الفيتنامية الحالية ، فرغم مرور ما يقرب الأربعون عاما على توقيع اتفاقية السلام او اتفاقية الإنسحاب ، فمازال هناك الكثير من تأثيرات تلك الحرب التي لم تنتهي ولا يقدر لها ان تنتهي قبل مرور عشرات السنين اللاحقة ومنها تأثيرات قنابل النبالم والأسلحة الكيميائية التي أستخدمها الأمريكان ولا يعترفون حتى الآن بذلك.

ولكن ليس كمثل بعض بلادنا او قل معظم بلادنا العربية ، خرجت فيتنام من فلك البكاء على تأثيرات تلك الحرب أو البقاء على فخر كاذب بالإنتصار فيها لتعمل على ما يصلح لشعبها ويساعد على إزدهار الإقتصاد والمجتمع عموما ، ما شاهدته في فيتنام يعلن صراحة انها مارد قادم من عمق الثقافة الشرق آسيوية التي لا تكل ولا تمل وتعمل بلا توقف من أجل نماء شعوبها وازدهار أوطانها.

فيتنام دولة زراعية في الأساس ، يزرع الشعب الفيتنامي - الذي يصل تعداده إلى 89.7 مليون شخص محتلا المرتبة 13 في العالم من عدد السكان - الرز كمنتج زراعي أول يصدر الفائض منه إلى الدول الآسيوية المجاورة ، المطاط والبن والشاي والفواكه والبهارات من المنتجات التي تصدر ايضا ، معظم الزراعة كانت تتم بالطرق التقليدية ويتم تطويرها بدعم حكومي ، شاهدنا في أحد الطرقات الزراعية مبنى يحتل مساحة كبيرة أخبرني دليلي أنه مركز الأبحاث الزراعية لتطوير طرق الزراعة ، وتتوجه الحكومة الآن للتحول إلى الإقتصاد الصناعي لتكون فيتنام إحدى الدول الصناعية الرائدة في العالم بحلول العام 2020م ، حاليا توجد بها عدة مصانع لتجميع السيارات من ضمنها مرسيدس بنز وهوندا وفورد.

خرجنا من المطار إلى الفندق الواقع في وسط بلدة سايجون والتي تحول إسمها بعد إنتهاء الحرب إلى "هو شي مين" ، سيارات الأجرة متواجدة بنظام في مكان محدد في المطار وتعمل جميعها بالعداد وأسعارها مناسبة ، أستقبلنا في الطريق مطر غزير مفاجيء ، كأن بالسماء صهريج ماء إنثقب فجأة ، نكاد لا نرى الطريق أمامنا ، واضح أن البلد مهيأة لمثل هذه الأمطار فتجد المياه تتسرب مباشرة من الشارع والمركبات تتحرك بطريقة عادية ، وعلمنا في اليوم التالي أن شجرة سقطت على عائلة كانت جميعها على الدراجة النارية مما أدى إلى وفاة الأم ونجاة الأب وبنتين.

شاهدت أكبر عدد من الدراجات النارية الخفيفة (السكوتر أو الفيسبا) في حياتي في هذا البلد ، عدم وجود وسائل مواصلات عامة غير الباصات والتي تستغرق وقت طويل في مشاويرها بسبب الزحام وسهولة الحصول على هذه الدراجات الخفيفة والتنقل بها يجعلها وسيلة المواصلات المفضلة ، الجميع يركبون السكوتر ، رجال ونساء صبيان وعجائز ، نساء في خريف العمر ، ويتنقلون وينقلون كل شيء بها ، شاهدتهم ينقلون أثاث منزلي وأنابيب الغاز ومنتوجات زراعية وحيوانات من ضمنها كلاب او خنازير ، ومن الممكن ان تشاهد عائلة كاملة من خمسة أفراد على دراجة نارية واحدة تتنقل بكل خفة بين الشوارع والسيارات ، السياقة كيفما اتفق! ولكن السرعة محددة وبطيئة جدا ولذلك تندر الحوادث كما يقول مرشدي ،السيارات في الشوارع كلها حديثة ، بل لا أبالغ إن قلت أن 99% من السيارات في الشوارع لا تزيد عن ثلاث سنوات من العمر.

معظم الفنادق ذات الأسماء الكبيرة لها فروع في سايجون ، فندقي كان من فنادق الأربعة نجوم ، الفندق جميل جدا ومؤثث بطريقة حديثة ، الغرف متوسطة المساحة وتطل على نهر سايجون الذي يخترق هو شي مين ويصل إلى كمبوديا المجاورة ، في ردهة الإستقبال يوجد مكتب لشركة سياحية حيث رتبت برنامج سياحي ليومين كاملين بسيارة خاصة مع سائق ومرشد سياحي ، وخرجنا بعدها لتناول العشاء والتجول في المنطقة المركزية المجاورة ، كل شيء متواجد هنا ، جميع أنواع الأطعمة ، مطاعم فيتنامية وصينية ويابانية وتايلندية وأمريكية ، حتى اننا وجدنا مطعما يقدم طعاما عربيا ، وفضلنا عشاء على الطريقة الفيتنامية مأكولات بحرية خصوصا اننا لا نستطيع أكل طعامهم الآخر فهم ليسوا أهل كتاب.

محلات المساج تتواجد بكثرة ، العديد من الفتيات اللاتي يقدمن بروشورات لمراكز المساج التي يعملن بها ، بقالات ومحلات لبيع التذكارات للسياح ومحلات ملابس بأسعار زهيدة ولكن بنوعيات قد تكون زهيدة في المعظم أيضا ،التفاوض على الأسعار في هذه المحلات من الأمور المهمة ، وهناك شوارع تمتلئ بالأكشاك التي تبيع كل شيء وتبدأ عملها بعد الساعة السابعة مساء وتستمر حتى الواحدة صباحا ، المفاوضة على الأسعار هنا مثل الصين ، يقولون سعرا وينتظرون المشتري ليقدم سعر آخر ، السعر الذي يضعه البائع مبالغ فيه دائما ويتجاوز ثلاثة أو أربعة أضعاف السعر الحقيقي والذي تنتهي عليه الصفقة.

دخلنا جميعا لأحد مراكز المساج وتفاوضت على سعر يشمل جميع أفراد العائلة لمدة نصف ساعة مساج للأقدام فقط ، أكثرنا سعادة كان إبني إبراهيم الذي أكمل السادسة من العمر قبل أيام والجميع يضحك حتى العاملين بالمركز على إستمتاعه بتدليك القدمين ، إستمتعنا أيضا بشاي أخضر بعد جلسة المساج على الطريقة الفيتنامية.

من الأماكن السياحية الجميلة منطقة البيك (بتشديد الباء المكسورة)Peak بدأ اليوم التالي بزيارة لمنطقة الأنفاق الفيتنامية المشهورة التي أستخدمها الفيتناميون الشماليون في حربهم ضد الأمريكان ، منطقة غابات تبعد حوالي الساعة والنصف بالسيارة من الفندق ، في الطريق شاهدنا غابات كبيرة من أشجار المطاط والتي يتم التحصل على المطاط منها بطريقة مبتكرة بجرح جذع الشجرة ، ثم وصلنا إلى منطقة الإستقبال للأنفاق حيث يتم بيع التذكارات عن الحرب وعن فيتنام والجيش ، يبدأ البرنامج بالنزول إلى قاعة يعرض فيها فيلم وثائقي عن الحرب وعن تأثيراتها وبطولات الشعب الفيتنامي بالطبع.

يجب أن أسجل إعجابي الشديد بما شاهدته هنا ، فالهندسة المبتكرة في حفر أنفاق تمتد إلى ثلاثة طوابق تحت الأرض على عمق يتجاوز 30 مترا في بعض الأحيان بدون إستخدام تقنيات حديثة ، وتشتمل على غرف راحة ومخازن أسلحة وغرف مئونة ومطابخ وغرف إجتماعات وغرف تصنيع للأسلحة وغرف لتصنيع ملابس المحاربين ، منفذات هواء مخفية في أماكن عديدة ، مداخل ومخارج سرية ، حتى مداخن المطابخ تم حفرها بطريقة توزع دخان الطبخ في عدة أماكن في الغابة حتى لا يتسنى للأعداء معرفة أماكن الطبخ! جربت النزول لأحد الأنفاق مع مرشد خاص وكان الوضع مرعبا ، أحجامهم الصغيرة وتكيفهم في المشي داخل هذه الأنفاق منحني الرأس هي خاصية لا يستطيع الآخرون القيام بها بسهولة.

شاهدنا أيضا بعض تقنياتهم البدائية في عمل مصائد للأعداء داخل الغابات وفي البيوت ، ويبدو أنها كانت مرعبة للجيش الأمريكي رغم بدائية تصنيعها ، شاهدنا تصنيع الأحذية من عجلات السيارات وكيفية أنها كانت تقبل اللبس من الناحيتين لتعطي تمويها لمقتفي الأثر لا يعلمون إذا شاهدوا أثر الأقدام إتجاه السائر! يستخدمون بقايا الصواريخ التي تهبط عليهم لتصنيع أسلحة ومتفجرات بتقنيات وهندسة عجيبة ومبتكرة ، إستخدم الأمريكان جميع أنواع الصواريخ المعروفة لديهم في ذلك الوقت وأعاد هؤلاء تصنيع كل شيء ، يصنعون قنابل وألغام وأسلحة أخرى من بقايا هذه الصواريخ! يستطيع الزائر من ضمن برنامج الزيارة تجربة بعض الأسلحة الرشاشة والبنادق في ساحة مخصصة ، ويدفع فقط قيمة الرصاص المستخدم.

عدنا إلى المدينة لنكمل الجزء الثاني من البرنامج وهو زيارة متحف الحرب والمبنى الرئاسي للرئيس الجنوبي سابقا ومبنى البريد المبني خلال حقبة الإحتلال الفرنسي ومبنى كاتدرائية نوتردام الذي لا يشبه في شيء مبنى كاتدرائية نوتردام الشهير في وسط باريس ، أهم ما في هذا الجزء مشاهدة صور لفظائع الحرب بسبب إستخدام الجيش الأمريكي أسلحة محرمة دوليا وإستهداف المدنيين ونتائج هذه القذائف من مثل تشوهات المواليد وتضرر البيئة الشديد ، عدنا بعدها للفندق وخرجنا لنكتشف مركزا تجاريا حديثا وقريب من الفندق وبه صالة سينما وساحة طعام متنوعة لوجبات سريعة.

بدأ يومنا الثاني مبكرا أيضا لننطلق إلى قرية مجاورة تبعد حوالي الساعتين بالسيارة ولنشاهد الحياة الفيتنامية البسيطة ، ركبنا في مراكب الصيادين وبائعي الفاكهة ، شاهدنا مصانع تقليدية للحلوى المصنوعة من الأرز المحمص والسكر ، شاهدنا تصنيع شراب النبيذ المحلي من الأرز ، مصانع لتصنيع أدوية تحتوي على زواحف وثعابين ، وانتقلنا بعدها لنتناول وجبة الغذاء في مطعم محلي ، كنت قد أخبرت المرشد في اليوم السابق أننا لا نأكل غير الطعام البحري او النباتي ، تناولنا وجبة لسمك الفيل (كما يطلقون عليه هنا) وهو سمك يربى في مزارع الأسماك هنا ويستخدم بكثرة بالطريقة الفيتنامية الشعبية وكانت لذيذة وممتعة ، وخرجنا من هناك إلى جولة بالمراكب الصغيرة أشبه بالجندولا الفينيسية الشهيرة بين الممرات المائية التي تم عملها منذ القدم لتسهيل نقل المنتوجات الزراعية.

الفيتناميون كما قابلتهم شعب مسالم ومنهك من أثر الإحتلالات والحروب المستمرة التي مرت عليه ، يتطلعون إلى المستقبل بتفاؤل كبير خصوصا بعد إنضمامهم لمجموعة الآسيان التي تضم دول مجموعة جنوب شرق آسيا ، يعيدون بناء بلادهم رغم قلة الموارد وشحها ، يتعاملون بسلام وترقب مع المارد الصيني المجاور الذي يتوسع ويستعرض قواه بإحتلال جزر فيتنامية وتايلاندية ، وجدتهم طيبون في المعظم ، زيارتي إجمالا كانت ممتعة وثرية وتستحق المغامرة.


معلومات مهمة:


فيتنام تتطلب تأشيرة لزيارتها تكلف 600 ريال سعودي للشخص الواحد يتم الحصول عليها عن طريق السفارة الفيتنامية في الرياض أو بإرسال جوازات السفر عن طريق إحدى شركات البريد

هناك العديد من الشركات التي تقدم خدمات وبرامج سياحية متنوعة يمكن الحصول عليها عن طريق الإنترنت أيضا

الريال يساوي ما قيمته 5400 دونج فيتنامي ، التعامل مع العملة الفيتنامية صعب بسبب الأعداد الكبيرة ، ولكن الأسعار رخيصة على العموم مقارنة بالدول الأخرى

هناك العديد من الشواطئ والمنتجعات السياحية على البحر كنت أطلعت عليها ، ولكن لم أستطع زيارة أحدها بسبب إرتباطي المسبق


مشاهدة وتسجيل / حسام عابد أندجاني

في 27 شوال 1435هـ

الموافق 23 أغسطس 2014م


يمكنكم الإطلاع على صور عديدة عن فيتنام ودول أخرى في حسابي على الإنستقرام theduekfleed@.



حسابي في تويتر

@hosam_andijani