الصفحة الرئيسية
من أنا
مقالات أخرى
صاحب القِـبلة
جلس الأمير محمد بن عبدالرحمن الأوسط في مجلسه المحبب إلى نفسه ، مجلس العلم الذي جمع فيه أفضل العلماء في عصره ، وأغدق عليهم من نفقاته ، وفي مجلسه ذاك عباس بن فرناس ، الذي ما فتىء يحكي عن أحلامه بالطيران وتجاربه السابقة فيه ، وفي مجلسه بقيّ بن مخلد العالم الفقيه ، يحكي عن آثار شيخه بن حنبل وعن مآثره وأخباره وملازمته له حتى وفاته ، ومنهم حفيد مولى جده هشام الأديب الشاعر ابن عبد ربه يلقي بعض ممحصاته على الأمير ، وذلك مجلس أحب إلى الأمير من مجلس أهله ولا يفوقه حبا إلا مجلس أمراء حربه في غزواته المباركة ، فكان مجلسه العامر متوازنا بين أهل العلم والدين والأدب ، يميل ليأخذ من هؤلاء ساعة ، ويميل لذاك فينهل منه ساعة أخرى ، سأل الأمير مجلسه: إن الفتن قد أقضّت مهجعي منذ أن كلفت بأمري هذا ، وإن طليطلة قد أعيتني وإنني لأعلم أن من بها ليتحينون الفرصة حتى ينقضوا ثانية ، وقد عملت فيهم بسيفي مالم أعمله في غيرهم ، ومازالوا أهل ثورة باطل ، وإن النورمان مازالوا يعيثون في أرضنا الفساد ، ويهجمون علينا بسفنهم تارة من الغرب وتارة من الجنوب ، وإنني والله ليس فيَّ من فتنة أخرى وإني قد سمعت كما وصلكم أمر مسلم بن أبي عبيدة ، ووالله أني إحترت أحق هو أم لا ، وما أحترت سابقا في أمر كما كان هذا ، فما الرأي عندكم؟

وكما كان الترتيب الأدبي يقتضي فقد بدأ العالم التقي بقي بن مخلد: أيها الأمير أطال الله في عمرك وزاد في علمك وأبقاك ذخرا للدين والدولة ، إن الرجل قد تعلم علوم الدنيا ، وزاد بأن أخذ من كتب الإغريق والرومان ، فتأثر بهم وأعجبته مفاهيمهم ، وتعلم الفلك والتنجيم ، وجاء يريد بنا الهلاك ، فتارة يغير قبلتنا وتارة يحدثنا بكروية مزعومة للأرض والله تعالى يقول { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ ۖ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } وإنا بك بعد الله ملتجئون ، وما رأينا فيه إلا أنه خارج عن علوم الآخرة وما يفيد المسلمين ، ونراه قد عاث كما عاث أبن مسرة القرطبي في عهد جدكم الناصر حتى أُحرقت كتبه ، وما نرى إلا أن تحرق كتب هذا المدعي وأن ينفى إلى خارج أرض مملكتكم

أصلح الله الأمير ، هكذا بدأ عباس بن فرناس :إن الإسلام قد علمنا البحث والتفكر ، وما عاد العلم للأندلس إلا بفضل من الله ثم بفتح جدكم صقر قريش ، فعاد الأمان إلى هذه الحاضرة وعاد معها العلم ، وقد كان عصر أبيكم من أزهى عصور الأندلس فهذا جامع قرطبة يأتيه الناس من ديار المسلمين وديار غير المسلمين ، حتى كان من طلبته بعض من الصقالبة ، وإنا قد عهدناكم محبين للعلم والجهاد ، وإنما الرجل في صحبة من العلماء ، وقد تعلم الجغرافيا حتى أبدع ، فعرف القبلة منحرفة عن ما هو عليه جامع قرطبة الذي بني بإجتهاد ، وعليها كانت القبلة في مساجد عديدة من مساجد قرطبة ، وإنما أراد الصلاح والقبول لأهل هذا الحي ، وقد درس الفلك حتى أبدع ، فقال بكروية الأرض كما هي الكواكب الأخرى ، وذلك سبب الليل والنهار وسبب إختلاف الفصول بين شمال الكرة وجنوبها ، وإنه ليتكلم بعلم وحسن نية

برقت عينا إبن عبد ربه وقد حان وقت حديثه ، يعلم الأمير أن الأديب إذا برقت عيناه فقد جاء وقت الشعر ، فأنتظر ونظر إليه بنظرة السماح بالحديث ، فوقف الخطيب المفوه والشاعر البليغ وألقى قصيدته

أبا عبـيـدة ما الســؤال عـن خـبر ** تــحـــكـيه إلا ســـــوأ والـذى ســـــألا
أبيـْت إلا شــذوذا عن جـماعــتـنا ** ولم تصب رأى من أرجى ولا اعتزلا
كــذلك القـــبــلـة الأولـى مبــدلــة ** وقـد أبــيْــت فــمـا تـبـغى بــها بـــدلا
زعـمتَ بهرام أو بيذخت تـرزقنا ** لا بـل عـطـــارد أو مـريخ أو زحــلا
وقلت إن جـميع الخـلـق فى فــلك ** بـهـم يحـيــط وفيـهـم يقــسـم الاجـــلا
والأرض كروية حف السماء بها ** فـوقـا وتـحـتـا وصـارت نـقـطـة مثـلا
صيـف الجنوب شـتاء للشمال بها ** قـــد صـــــار بيـنـهـمـا هـذا وذا دولا
فما لكانون فى صـنعاء وقـرطـبة ** فــردا وايـلـول يـذكـى فـيهـما السـولا
هـذا الدليل ولا قـول عـزرت بــه ** من القـوانـيـن يجـرى القـول والعملا
كما استمر ابن موسى فى غوايته ** فـوعَّــــــر السـهـل حتى خـلنـه جـبلا
أبـلغ معـاوية المصـغى لقـولـهـما ** أنى كــفـرت بـمـا قــــالا ومـا فــعــلا

غضب الأمير وأحمرت عيناه وقال :أوزعم هذا بأن الرزق من الكواكب والنجوم ، لا والله ما أبقيه في أرض أنا أميرها ، مروه فليخرج من أرضنا بما جاء في زعمه مذلولا بدون شيء مما رزق في أرضنا

وهكذا طرد العالم أبو عبيدة مسلم بن أحمد بن أبي عبيدة الليثي إلى المشرق ، فما وقف عند ما تعلمه ، بل أضاف إلى علومه علم الشريعة وروى الحديث عن جمع من علمائه ، وكان موصوفا بأنه أصدق أهل زمانه وقيل عنه لأن يخر من السماء إلى الأرض أهون عليه من أن يكذب

رحم الله أبا عبيدة ، كم بيننا اليوم من مثله متمسك بالحق مطرود بعلمه ، حسبنا وحسبه الله ونعم الوكيل وغفر لنا ولكل من ذكرنا في مقالنا أعلاه من المسلمين



حسام عابد أندجاني

في 2 يونيو 2011م
في 1 رجب 1432هـ

القصة كتبت مأخوذة من عدة مصادر بتصرف من الكاتب **