قال لي الرجل الحكيم مرةً: "يا بني ، صحيح أننا نلعب الورق (الكوتشينة) ونضيع به وقتنا ، وصحيح انها مجرد لعبة ، ولكن أسلوب لعبك يظهر كثيرا من شخصيتك ، والذكي الذي يكتشف معادن الناس من لعبهم" ، رحمه الله وأسكنه فسيح جناته ، عندما طبقت كلامه وجدته صحيح ، لا أقول مطلقا فلكل قاعدة شواذ ولست قارئاً لما أخفاه الله ، ولكن على الأغلب ، وعلمتني الحياة ان اطبِّق ذلك القياس على أمور أخرى كثيرة فتعلمت خبرات كثيرة في نفوس الناس وأخلاقهم ونفسياتهم
انا مشجع للكرة منذ صغري ، لا أدري متى كانت اول مباراة شاهدتها ولا أدري متى أول مرة هتفت لفريقي ، ولكنني نشأت في عائلة فيها الكثير من المشجعين وبتعصب لفريق واحد ، وطوال نشأتي كان الولاء للنادي مسبّقا للولاء لأي شيء آخر ، ولم تكن تلك حال عائلتنا فقط ، بل كل العائلات التي نعرفها ، ويكون الغريب حقا ان تجد شخصا يقول لك انا لا أشجع كرة القدم او لا اشجع فريقا ، فكأنك ترى ملحدا بين مجموعة من المؤمنين! ثم تزوجت من عائلة بها الكثير من المتعصبين لفريق منافس ، والحمدلله ان مسألة تشجيعي لم تؤثر على زيجتي وقبولي وعلاقتي بأرحامي
منذ سنوات عدة بردت عندي حدة التشجيع ، لنقل انها تمت بعد مراجعة نفسية ساءلت فيها نفسي ماهو المهم؟ وما هو الأهم؟ وأكتشفت ان الأهم هو عائلتي وأصدقائي وأرحامي وزملائي ، الأهم هو نشر الحب والود بدلا من السباب والشتائم ، الأهم هو أخذ العبرة بالرياضة بدلا من ان تكون سببا لضيق نفسي ومَرَضي ، الأهم هو مساحة الوقت التي أقضيها في عمل يفيد نفسي ووطني ، الأهم ان اكون عادلا في حكمي على فريقي والفريق المنافس ، الأهم ان اتمتع بالحياة أشاهدها بجمالياتها بدلا من مساحة الكُرْه والغضب على مالا ينفعني ، الأهم ان اجد بيني وبين الآخر ما نشترك فيه بدلا من ان اجد ما ينفرنا من بعضنا
مازلت أشجع فريقي ، ومازلت أتحمس جدا وقت المباراة التي أشاهدها فقط اذا لم أجد شيئا آخر أقضي فيه وقتي ، ولذلك أصبح كل ما أشاهده خلال موسم كامل لا يتجاوز عدد أصابع اليد ، ومازلت أطرب وأنا أسمع مشجعي ناديي وهم يغنون ويحتفلون مع الفوز وخلال المباريات ، ومازلت أمازح الآخرين أحيانا في فرقهم ، ولكن كل شيء من ذلك بطعم آخر وبحدود لا أتجاوزها
اليوم أشاهد الكثير من هؤلاء الذين أعماهم تعصبهم ليروا أي معاني جميلة أخرى ، أراهم يتبادلون الشتائم والإهانات والخلافات ، كلٌ منهم يدافع عن فريقه بقدر او حتى بأكثر مما قد يدافع عن بيته! لم أعد أتناقش معهم في قناعاتهم إلا بالقدر الضئيل ، وأسكت معهم أكثر الوقت فلا أتحدث إلا إذا تغير الموضوع ، أشاهدهم فأقرأ شخصياتهم ، وأستوعب كلام ذلك الحكيم واستغفر له ولنفسي ولهم ، وأحمد الله أن علمني أن أخفي سوأتي فلا أظهرها علنا أمام خلقه بتشجيع لا يضرني ولا ينفعني
...شغلنا الله وإياكم فيما يحب ربنا ويرضى
في 2 جمادى الآخرة 1436 هـ