الصفحة الرئيسية
من أنا
مقالات أخرى
رحلاتي
في الحارة
لا أذكر الكثير ، كل ما أذكره أنني فتحت عيني ورأيت وجهه ، كان هناك الكثير من الناس ، نساء بالعباءات السوداء ينتحبن ، أعتقد أن أمي كانت بينهن ، وأطفال يصرخون ، لم أر غير وجهه ، لا أعلم مالذي حدث ، ركب في المقعد الخلفي وصرخ بالسائق "إنطلق إلى المستشفى" ، كنت أسمع أحدا يصرخ "عبد الصمد ، ولدي يا عبد الصمد" كان صوت أمي

حارتنا كانت حارة صغيرة كمعظم حارات وسط البلد المتصافة أفقيا ، كان الجميع يعرف الجميع ، كان الحادث أمام بيت عم لطف الدين ، زوج عمتي ، يقابله بيت العم برهان الدين ، ويجاوره بيت العم حبيب الله ، وفي الزاوية الأخرى بيت العم عابد جان ، وكنا نسكن في شقة مستأجرة ببيت العم إكرام الدين ، أمشي قليلا في إمتداد حارتنا لأصل لبيت جدتي ، في الحارة التالية لحارتنا بيت العم كامل زوج خالتي ، خالي أيضا كان يسكن على بعد حارتين

كنا عائلة واحدة كبيرة ، منتشرة على مجموعة من الحارات الصغيرة الترابية ذات الشوارع الضيقة ، إن صرخ أحدهم في أول الحارة سمعه كل من بالحارة

في تلك الحارات الصغيرة كانت تقام أفراحنا ، كانت البيوت رغم صغرها تستقبل الضيوف وتكفيهم ، والقلوب تتسع لهم أكثر ، وكانت وفاة أحد الأقرباء هو عزاء للحارة كلها ، تقفل الحارة من أولها لآخرها ويلتم الجميع في العزاء ، ويحضر البعض وهم يجرون ذبيح العشاء معهم ، فأهل الحارة لا يطبخون وليس أهل بيت الميت فقط

كان والدي في بداية تجارته ، وكان يسافر كثيرا ، كنت الصغير المدلل وكنت أرافق أمي وأبي في سفره الطويل أحيانا بالسيارة إلى الشام ، مازالت بعض الذكريات عالقة في ذاكرتي من تلك الأيام ، كنت أحكي لوالدتي مرة أنني كلما أستمعت لإحدى أغاني أم كلثوم أتذكر الليل الحالك السواد والمقعد الخلفي وأنا نائم عليه ورائحة سيجارة أبي

في ذلك اليوم كان أبي مسافرا ، وكنت ألعب مع جاري الذي في عمري ، كنا بالكاد خمسة أعوام أو أكثر قليلا ، وقفت سيارة أمريكية من الحجم الكبير بجانبنا ونزل منها السائق من الجانب الآخر ، أستمرينا باللعب ، كرتي زحفت تحت السيارة فزحفت لألتقطها ، عاد السائق وركب سيارته من الناحية الأخرى وتحرك ، وقدر الله مالا راد لقضائه ولكنه لطف بي فدهستني تلك العجلة العظيمة على بطني ، لم أدرك شيئا بعدها إلا مشاهدات تمر كخيال بين صحو وإغماء

ه"حسام مات حسام مات" كان يصرخ صاحبي ، كنت أسمعه ، ملابسي كلها مضرجة بالدماء ، توقف السائق المفزوع وعاد ليرى الجثة الملقاة تحت عجلات سيارته من الناحية الأخرى فيما لا ذنب له فيه ولا قوة ولا يدرك ماذا سيفعل ، وحده عبد الصمد ، كان يمر بالحارة فشاهد الموقف ، سحبني فيما يبدو من تحت السيارة وحملني على يده وركب في المقعد الخلفي ، أتذكر أنني رأيت وجهه في تلك اللحظة

ليست لدي كثير من الذكريات بعدها ، تقول أمي أنني كنت بين الحياة والموت ولكن أسعفني الأطباء وخرجت بعدة غرز في بطني مازال بعض آثارها لليوم وعانيت بعد تلك الحادثة فترة

كل هذه الذكريات مرت في خيالي في لحظات ، كنت البارحة في مطعم جديد في الحارة ، زرتها مع أبنائي أحكي لهم بعض ذكرياتي وتوقفت عند هذا المطعم فوجدته والشيب غزى وجهه فزاده وقارا وضيائا عما أتذركه في ذلك اليوم ، إحترت فيه إذا كان هو ، خرج قبلي فلحقته وناديته ، سألته" أنت عبد الصمد؟" ، قال "نعم ، هل تعرفني؟" ، مسكته من يده وقبلت رأسه ، قلت له سأقول لك من أنا ولكن إنتظر حتى يشهد إبني عليك

"ه"إبراهيم يا إبني ، هذا الرجل أنقذ حياتي ، لولاه لما بقيت حيا ولما كنت أنت!" تسعة وثلاثون عاما لا أتذكر أني رأيته فيها ، كنا قد إنتقلنا من الحارة بعد تلك الحادثة بقليل ثم إنتقلنا إلى جدة ، ولكني مازلت أتذكر تلك اللحظة التي فتحت عيني فيها وأنا إبن خمس سنوات مضرجا بدمائي وبين الحياة والموت وكان وجهه أمامي

لا أعلم في داري التي أسكن فيها اليوم عن جيراني كثيرا ، أرى بعضهم في طريقي للمسجد فأسلم ويسلمون وينتهي اللقاء ، أخاف على إبني وهو إبن التاسعة أن يذهب وحده للمسجد فلا أدري من قد يلقاه في شارعنا ، تمر السيارات مسرعة أحيانا بسائق متهور لا يعلم من القيادة إلا الدوس على دواسة البنزين! خرجت يوما لأجد سيارتي صُدمت أمام بيتي ولم يترك المتسبب أي رسالة ولا أعلم من قام بها هل هو زائر أم جار ، ورغم كل شيء فإني أحمد الله أني وإن لم أر منهم خيرا فلا أر منهم سوءا




حسام عابد أندجاني

@hosam_andijani
في 21 أغسطس 2017م
في 29 ذوالقعدة 1438هـ